يوميات مسيطر جوي ..هل هي صدفة ام حظ
21 يوليو , 2019مالك عبد القادر المهداوي
******************
الكثير منا قد تعرض الى أخفاقات أو عثرات او نكبات في الحياة وما يطلق عليها بالحظ السيئ أو سوء الطالع، وذلك نعزوه لما قد يقع من أحداث لم تكن في حساباتنا، وقسم منا يصل به الأمر ان يجعل الحظ سبباً اساسياً لكل ما يقع له في حياته بخيرهِ وشرهِ، ونجد كثيرا من الأشخاص يصفون من يوفق بالخير انه انسان محظوظ، وبينما يصفون من يتعرض للنكبات والإخفاقات المتكررة انه ذو حظ سيئ أو قليل الحظ، ويرى البعض ان الحظ السيئ والجيد مرتبط بقواعد وصفات معينة وليس محض صدفة أو عشوائيه كما يراه الاخرون، ليس كل شخص تصبه مصيبة او تحدث له اخفاقات ونكبات في حياته معرض دائما لمصائب متتالية لنجعله من ذوي الحظ السيئ، وليس صاحب النجاحات عرضة الى الأحداث السارة وتتابع النجاحات دائما، فالحياة مزيج من الأسود والأبيض، مزيج من الفرح والحزن، ولا يوجد شخص يعيش حياة كاملة مليئة بالتفاؤل والجمال، فالحياة ليست صفحة بيضاء فقط، وهناك بعض الأشخاص الذين يغلب على حياتهم الحزن والألم وما يعرف بالتشاؤم أحياناً، وعندما تتوجه لهم بالسؤال حول سبب التشاؤم؟ تجد ألسنتهم تقف ولا تجيد الحديث! وربما يبحثون عن علّاقة يضعون عليها سبب ذلك متكئين على خرافات جعلت هذه الأمور مصدر تشاؤم. ينبغي ان نضع الامور في نصابها الصحيح وننظر الى الأمر نظرة متحررة من جميع النظريات والمعتقدات الخاطئه، لم يخلق هذا العالم سدى او عبثا بل خلق بنظام دقيق ومحكم جعل الله فيه لكل حادث سبب سواء كان ظاهرا او خفيا.
تعددت ثقافات الشعوب منذ القدم وتعددت التسميات، كانت العرب تطلق على الحظ السيئ بالتطير وهي مأخوذة من الطير،لأن العرب يتشاءمون أو يتفاءلون بالطيور بطريقة زجر الطير، وينظر الى أي اتجاه يذهب! فإن ذهب يميناً أقدم، أو يسارً تشائم وأحجم، والتشاؤم منه مرئي ومنه مسموع، والتشاؤم من نعيق الغراب والبوم والشخص الأعور والأعرج، والتشاؤم من بعض الأيام وبعض الشهور أو السنوات، والغرب ليس بعيداً عن هذه الممارسات فإنهم يصابون بالرعب والتشائم من الرقم 13: ويعود سبب التشاؤم منه حسب ما ذكره المؤرخون إلى قصة العشاء الأخير، حيث كان يهوذا الخائن للسيد المسيح هو الشخص المدعو صاحب الرقم 13، والخوف من السير تحت سلم خشبي(يذكرهم بالإعدام)، والتشائم من إشعال 3 سجائر من عود ثقاب واحد! (من تراث الحرب العالمية الأولى) .
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الطيرة (التشاؤم) وأبطلها وزجر عنها وأخبر أنها شرك، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى ولا طيرة) وإنما كان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل؛ لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن به، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال.
وقد قص الله سبحانه تعالى علينا في سورة يس أن أصحاب القرية لما جاءهم المرسلون قالوا: ْ﴿ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ﴾{يس:18}.
لا زال قسم من الناس تؤمن بهذه الأفعال التشائمية وتتخذها منهاج في حياتها رغم أن نهانا الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم ونهانا الرسول عنها، نلمسها من خلال حياتنا اليومية، فالمراءة تشكي حظها وتنعته بالسوء، والرجل يشكي قلة الحظ رغم أنهم يتوفر لهم كل شيئ، وكان الأجدر بها أن يحمدوا الله ويشكروه أما ما يقال فهو درأً للعين والكثير منهم مصابين بهذا المرض النفسي.
من خلال العمل المستمر والدائم في القوة الجوية والإيقاع السريع في العمل والحوادث تحصل هنالك مسائل ظريفة ومضحكة وبعضها حزينه ومبكيه، حدثت في سنة 1986م ثلاث حوادث متتالية بفترات زمنية متقاربة لطائرات (السوخوي 7) وكانت لجنة سلامة الطيران تأتي للتحقيق وتجد أن المسيطر نفسة بالواجب في تلك الحوادث فقال رئيس اللجنة هل هو المسيطر الوحيد في البرج، بنظرة تشاؤمية في حين أنها هي محض صدفة ليس إلا، وروى لي أحد قادتي أنه في معركة شرق البصرة سقط أثنان من الطيارين مع قائد تشكيل في واجبين مختلفين مما أدى الى تحطم نفسية قائد التشكيل وبكاءه على زملائه، ليس خوفاً بل حرصاً ووطنيتاً، فقال قمت بتهدئته ومنحه إجازة دورية ونحن في خضم المعركة لأجل أن يستعيد نفسيته ويرتاح من التوتر الذي أصابه، وخوفاً من فقدانه وفعلا التحق الى السرب وهو بمعنويات عالية، وكان لي صديق وهو طيار في طيران الجيش كان زملائه يلقبونه (يصرف توات) وأنا أضحك وأقول لهم أنها الحرب، ومن يكون في وجبة المجازين وتتأخر أو يكون هناك أنذار<جـ مشدد> وحين تتكرر مع أحد يضعونه هو السبب أو تأخر طائرة المجازين ويشار لهذا الشخص باللهجة العراقية (بت، فكر) أشياء مضحكة كنا نحاول تعويض ما فاتنا .
ومن القصص الغريبة التي حصلت وهي فيض من الذكريات تتقاطر بسيل عارم من التنهدات على ما فات، يرويها لنا أستاذنا العميد المسيطر ميسر سعدالله العلاف دورة 17ق.ج وفيها شئ من عدم التوفيق!
ففي أحد الأيام من سنة 1969م لا أذكر التاريخ بالتحديد، وفي قاعدة الوليد الجويه حيث كان التنقل منها وإليها بواسطة طائرة المجازين Ukraine.12 وقد كانت هذه الواسطة حلم كل القطعات من غير منتسبي القاعدة بسبب بعد المسافة بين القاعدة وبغداد ووعورة الطريق قبل إنشاء الطريق السريع وكان موعد طائرة المجازين هو يوم الثلاثاء من كل اسبوع تصل القاعدة حوالي الساعة الحادية عشرة وتغادر بعد ساعة على الأكثر.
وفي أحد أيام الثلاثاء من تلك السنه كان وقتها خفر في برج السيطرة الجوية وكان برتبة ملازم مسيطر في حينها، بعد تهيئة المطار والأجهزة للطيران، ومع ساعات الصباح الاولى دخل على أحد ضباط المدفعية برتبة رائد وطلب مني أن اسجل اسمه بقائمة الركاب المسافرين على طائره المجازين، لا ادري من افهمه ذلك أو يتصور أن السياقات هكذا، وحتى لا اقوم بأِحراجه تناولت ورقة وكتبت فيها اسمه وقلت له ان الوقت مبكر لوصول الطائره ومن الأفضل ان تذهب وتستريح في وحدتك وتأتي الى برج السيطرة بالساعة العاشرة ولكنه قال بان وحدته بعيده ويفضل الانتظار معي وقمت بدوري بالترحيب به وتقديم واجب الضيافة.
ففي الساعة التاسعة صباحا هبطت طائرة Ukraine.12 مصريه قادمة من القاهرة بواجب نقل الفدائيين الفلسطينيين من مصر الى قاعدتنا لغرض ذهابهم الى الاردن وهذا ما كان سائداً في حينها وتغادر بعدها مطارنا الى بغداد وتاخذ معها بعض من المجازين، طلبت من الطيار المصري أن يقل معهم رائد المدفعية بالطائره فوافق بدون تردد، ولكن الرائد أسر في أذني بأنه لا يثق بالطيارين المصريين ويفضل الرجوع مع الطيارين العراقيين، وذهبت محاولاتي لإقناعه أدراج الرياح، أقلعت الطائرة المصرية من مطارنا وتم إبلاغي هاتفياً من قبل الحركات أنها هبطت في قاعدة الرشيد، وهو يسمع اتصال الحركات وأبدى ندمه وأسفه على فرصة ذهبت وقال (لو رايح بيها كان أسه! أنا في بغداد).
تم إبلاغي أن طائرة المجازين العراقية قد أقلعت من مطار المثنى في العلاوي! وصلت طائرة المجازين اخيرا واخذت الرائد بيدي وصعد الى الطائرة، وقد أستشفيت من وضعيته أنها تنم على انه اول مره يركب بطائره واوصيت عليه الطيارين ليدخلوه كابينة الضغط وراء المقصورة وفعلا فعلوا.
قدم طاقم الطائرة خطة الطيران التي سيتبعها الطيارون وكان ….الوليد ….H4. وهو مطار داخل الأردن ثم العودة الى بغداد وأن السبب في ذهابهم الى H4، هو وجود طائرة نقل من نوع *Heron عاطله هناك وسوف يهبطون في المطار لانزال المفرزة الفنية لتصليحها، وكان مع المفرزة النقيب الطيار موسى عبدالودود ومساعده لغرض الإقلاع بالطائرة Heron والعودة بها الى بغداد.
اقلعت طائره Ukraine.12 والتي كانت التعليمات تنص على اتباع خطة الطيران بارتفاع واطي 100 متر تجنبا لكشف الرادارات الاسرائيلية وبعد نزولها وانزال الفنيين والطيارين قفل راجعا الى بغداد ومر من فوق قاعدة الوليد وقال لي الطيار (صاحبك داخ وراد يزوع) لأن الطيران الواطي أرعبه وبسبب المطبات والاهتزازات أصيب بالصداع ولما رأى طائرة الــ Heron قال استأذن منا وطلب العودة معهم، لان طائرة الـ Heron هي طائره VIP في ذلك الزمن ومقاعدها من الجلد المبطن وليست كراسي خشبية ومصاطب كما هي في طائرة الـ Ukraine.12، تم إبلاغي من الحركات بهبوط طائرة المجازين في قاعدة الرشيد /بغداد، انتظروني لازالت هناك مفاجأة! ولا زال في الحديث بقية! قبل المغرب بقليل! تلقى المسيطر ميسر نداء استغاثة من طائرة Heron وقائدها النقيب الطيار موسى عبدالودود وهو يطلب فيها اسبقية النزول عكس اتجاه المدرج المستخدم لوجود نضوح دهن من أحد المحارك الأربعة ومن المحتمل نشوب حريق في أي لحظة! بهذا المحرك لارتفاع درجة حرارته! قام المسيطر ميسر في لحظات متسارعة، باصدار الاوامر لطواقم الإنقاذ، والإطفاء، والإسعاف، وذلك بالضغط على الجرس الأحمر للحالات الطارئة وأخبار، غرفة الحركات، وسلطة الطيران! هبطت الطائرة ولامست عجلاتها سطح المدرج وكانت عجلات الإنقاذ، والإطفاء، والإسعاف، بطواقمها تلاحق الطائرة وذهب الملازم المسيطر ميسر الى ساحة وقوف الطائرات ليستقبل ذلك المسافر الرائد المدفعي! الذي نزل يلعن ابو اليوم الذي فكر فيه بركوب الطائرة ومعلنا التوبه الى اخر العمر من معاودة المحاولة .
*معلومات عن الطائرة Heron 2E نسخة VIP: طائرة أنكليزية الصنع ذات أربع محارك وكانت بديلاً الى الطائرة التي كان يمتلكها العراق(DH 104 Dove)ذات المحركين التي صنعت بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945م وتحمل 8 ركاب، وتم صناعة الطائرة(Heron) في العام 1950م وكانت عجلاتها ثابتة وتحمل من 17ـ 15راكب وتم تطويرها في العام 1952م بنموذج ترفع فيه العجلات مما زاد من سرعتها أعطى زيادة قدرها من 120 ميلاً في الساعة إلى 183 ميلاً في الساعة وتقليل صرفيات الوقود مما زاد من مداها وكانت تعمل في 30 دولة وتعتبر طائرة نقل قريب ومتوسط ويمكنها النزول على الطرق الممهدة والترابية.
*شكري وتقديري لمعلمي وزميلي العميد المسيطر ميسر سعدالله العلاف على هذه المعلومات والذكريات الجميلة.
*شكري وتقديري لجميع المتابعين والمشجعين والقراء الكرام لولا متابعتكم وتشجيعكم ما كانت تخرج هذه المدونة بهذه الصورة وأنا حريص على أن أرفدكم بما هو جميل وممتع ومفيد .
******
أخوكم مالك عبد القادر المهداوي
دفة
التعليقات
اكتب تعليقك شكراً لكم على أختيار ما أكتبه على صفحتي من مذكرات مما يجعلها مواضيع جديرة بالتوثيق .
أود أن أطلب منكم لانه أستجد تعديل عن معلومات الطائرة Heron 2E نسخة VIP أرجو تعديلها :
( معلومات عن الطائرة (de Havilland DH.114 Heron):ـ
هي طائرة ركاب بريطانية صغيرة تستخدم أربعة محارك (propeller) وكانت أول تجربة إقلاع لها(1950/5/10) وهي كانت تطويراً لطائرة (DH 104 Dove)ذات المحركين التي صنعت بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945م وتحمل 8 ركاب، وكانت النماذج الأولى من الـ51 طائره (de Havilland DH.114 Heron) ذات عجلات ثابتة، ولكن تم تطوير الطائرة في العام 1952م بنموذج جديد مزود بمنظومة لرفع العجلات مما زاد من سرعتها من 120 ميلاً في الساعة إلى 183 ميلاً في الساعة وتقليل صرفيات الوقود مما زاد من مداها، وتقل على متنها من (15ـ17) راكب، وتعتبر طائرة نقل قريب ومتوسط ويمكنها النزول على الطرق الممهدة والترابية، وبيعت بسعر ( 60,000£) وقد أشترى العراق طائرتين نسخة VIP من الـ(de Havilland DH.114 Heron 2E) في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، وتم إلحاقها بالرف الملكي، تحطمت إحدى الطائرتين في قاعدة الوليد الجوية نتيجة لاصابتها الغارات الجوية الصهيونية خلال حرب 5 حزيران 1967م وبقيت طائرة واحدة وتم أستبدالها لاحقاً بطائرات الجيت ستار والفالكون . )
الف شكر عزيزي مالك المهداوي المحترم للمعلومات التي تفضلت بها مع التقدير
اترك تعليقك